عندما تتقدم العقيدة الدينية في الحرب الفلسطينية الإسرائيلية

موقع رصد للدراسات / لندن
جانبلات شكاي *
يكاد التماسك الشعبي الفلسطيني في قطاع غزة والتفافه حول المقاومة الإسلامية بمختلف أجنحتها، في مواجهة العدوان الصهيوني المنقطع النظير، يكاد يكون بمثابة المعجزة، في ظل الظروف المأسوية التي بات يعيش فيها أهل القطاع المحاصر والمحروم من جميع مقومات الحياة.
ومن المؤكد أن استمرار العمل المقاوم بعد 44 يوماً من عدوان وحشي لم يوفر البشر والحجر، ما كان ليحافظ على هذا الزخم، لولا الحاضنة الشعبية المتماهية مع عناصر المقاومة، حتى تحول الجميع في القطاع إلى مقاومين وكل بطريقته، فبعضهم بالسلاح وآخرون بأدوات الجراحة الطبية، ومنهم من يحضّر الطعام، أو يقلّب كتلا إسمنتية وبقايا أبنية منهارة دمرها العدوان فوق ساكنيها، بحثا عن ناجين أو شهداء.
غزة كلها تقاوم، ولا فرق بين رجالها ونسائها وأطفالها، ومن يشاهد التوحش الصهيوني، ويدرك حجم الإمكانيات الفنية الهائلة عند العدو، يعلم أن هذا الأخير، فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أي خرق أو بإدخال اليأس والخوف في قلوب الغزاويين لينقلبوا على إخوتهم من حملة السلاح، ويرشدوا العدو عن أماكنهم أو حتى عن مرابض صواريخهم التي يطلقون جانباً منها من داخل أحيائهم، باتجاه مستوطنات ومستعمرات الصهاينة، ويفضلون تدمير طيران الاحتلال لهذه الأحياء من أن يبلغوا العدو أي معلومة سيتغنى بها في حربه، ليست العسكرية فقط وإنما الإعلامية، وهو انجاز لن يناله العدو بالتأكيد لما أظهره أهل القطاع حتى الآن من تماسك رغم كل الدمار وكل الشهداء والجرحى الذين قدموهم في حربهم المقدسة ضد العدو.
في مراقبة سلوك الطرفين المتحاربين في القطاع، يمكن ببساطة الاستنتاج أن الإسرائيليين في معظمهم، هم من طبيعة البشر الذين يريدون الاستمتاع بدنياهم، وأساس وجودهم في فلسطين اليوم قائم على مجموعة من الأكاذيب فهم “شعب الله المختار”، وعليّة القوم والبشر عموماً، والآخرون من الخدم والعبيد أو الحيوانات، وأنهم يقيمون في الجنة الموعودة وفي أرضهم التاريخية، وبالتالي فإن هزة عنيفة كتلك التي تعرضوا لها بعد زلزال “طوفان الأقصى” ستفقدهم توازنهم وصوابهم، وستدخلهم في نفق من الخوف والهلع يدفعهم للبحث عن سبل النجاة وأسهلها الهرب إلى الدول التي جاؤوا منها، وهذا ما بدأ فعلاً.
وفي المقابل فإن الفلسطينيين، أبناء الأرض، هم من طبيعة البشر الذين كلما زادت الضغوط عليهم، كلما واجهوها بصلابة أكبر، وكلما زادوا التحاماً والتصاقاً بأرضهم التي يقدمون الغالي والنفيس لها، ويروون زيتونها وليمونها وقمحها بدمائهم ودماء أولادهم، دون أن يدخل اليأس إلى نفوسهم، وهذه الحالة ليست وليدة اللحظة، نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزة، وإنما عمرها من عمر القضية الفلسطينية حتى بات شعبها يوصف بـ”شعب الجبارين”.
وسط هذه المعادلة التي تكاد تكون مستحيلة، ولن يستطيع فهما الكثير، حتى من الأصدقاء والأشقاء من عبدة المال، لابد والحديث عن هذه العقيدة المتماسكة وسر صمودها، بعد أن بات الفلسطينيون يعتصمون أكثر فأكثر بأقصاهم وعقيدتهم الدينية في مواجهة الصهيونية العالمية.
إن المواجهة في فلسطين المحتلة عموماً تتجه أكثر فأكثر باتجاه الحرب الدينية المقدسة لطرفي الصراع، فالصهاينة بنوا نظريتهم للاستيلاء على هذه الأرض وفق المفهوم الديني أساساً، وكانت “اليهودية” هي العصب التي تشد كل المستوطنين بالأرض التي يغتصبونها، وإن تم استغلال هذا الأمر في بدايات التأسيس من رجالات علمانيين وأحزاب على شاكلتهم، إلا أن هذا التيار مع مرور السنوات، يكاد يكون قد اختفى، وسيطر اليوم على مؤسسات كيانهم التيار اليميني المتعصب والمتطرف، وهو ما تجلى في أكثر صوره اليوم، بحكومة بنيامين نتنياهو الحالية.
على الضفة الأخرى، كانت حركات التحرر الفلسطينية في بداياتها أيضا ذات طابع علماني ومن جذور قومية وحتى ماركسية مثل “حركة التحرير الوطني الفلسطيني -فتح” و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” و”الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة” وغيرها، ودون أن نبخس من دور هذه الحركات في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الصهيوني على امتداد أكثر من خمسة عقود، إلا أنها لم تشكل في الواقع خطراً وجوداً على الكيان الإسرائيلي، الذي بدأت المعركة معه تتخذ طابعاً مختلفاً مع ظهور حركات مقاومة تعتبر الدين الإسلامي منهجاً لها في المواجهة.
وإن كانت هذه الحركات من منبت شيعي، كما هو الحال في لبنان عبر حزب الله، أو من منبت سني، كما هو الحال في “حركة المقاومة الإسلامية – حماس”، أو “حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين”، إلا أنها وبعد انطلاق عملها المقاوم منذ ثمانينات القرن الماضي، المبني على الفكر الجهادي الإسلامي، أدخلت الصراع مع العدو الإسرائيلي مرحلة جديدة مبنية على العقيدة الدينية الإسلامية في مقابل العقيدة الدينية اليهودية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، واستطاعت المقاومة الإسلامية خلال فترة ليست بالطويلة، مقارنة مع الحركات والفصائل العلمانية الأخرى، أن تحقق عبر حزب الله، أولى الانتصارات التي أجبرت إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان دون قيد أو شرط عام 2000، ثم تحقق انتصاراً آخر أجبر إسرائيل على الانسحاب من قطاع غزة عام 2005، وفي تموز 2006 عاد حزب الله وحق انتصاراً ثالثاً بعد أن أفشل عدواناً إسرائيلياً استمر 34 يوماً وانتهى بانسحاب الجيش الاسرائيلي من مناطق حاول احتلالها جنوب لبنان مع استقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان وعدد من ضباط الجيش الإسرائيلي، وبعد أن تحولت المستوطنات الإسرائيلية، لأول مرة، إلى أهداف لصواريخ المقاومة، فيعيش المستوطنون حالة الهلع التي لطالما عاشها الفلسطينيون والسوريون واللبنانيون والمصريون والأردنيون منذ زرع هذا الكيان في المنطقة.
قد لا يفهم الكثير أو لا يقتنع بما يمكن أن تحققه المقاومة الإسلامية في مواجهة الكيان الإسرائيلي، لكن هؤلاء المقاومون وبيئتهم الحاضنة، وخصوصاً اليوم في غزة، مقتنعون تماماً بجهادهم وتعاليم دينهم وقرآنهم الذي يقول: “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ”. (سورة البقرة 155-157).
واليوم لا نرى، على امتداد العمق العربي والإسلامي، أحداً يقف فعلاً إلى جانب المقاومة والشعب الفلسطيني في غزة، إلا تلك الحركات التي باتت تحمل اسم “المقاومة الإسلامية” سواء في لبنان أو اليمن أو في العراق، رغم كل محاولات شيطنتها، حيث يتجرأ هؤلاء على استهداف القواعد الأميركية بينما يكتفي باقي الأشقاء العرب، الرسمي منه تحديداً، في إصدار بيانات التضامن والتنديد وإرسال بعض من المساعدات، بل ويُحمّل البعض منهم المقاومة في غزة مسؤولية هذه الحرب الإسرائيلية الشرسة، دون أن يكلف نفسه عناء السؤال: إن كانت المقاومة هي التي جلبت هذا الدمار، فلماذا لا يتخلص أهل غزة منها، وهم الذي يُقتلون وتدمر مدنهم ومنازلهم “عن بكرة أبيهم”؟!
——————————-
* صحفي ومحلل سياسي سوري