آراء وكتابالرئيسية

حفظ النفس من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية

هذا هو الإسلام

الحياة نيوز- الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

الحمد لله الذي أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب بالحق ليقوم الناس بالقسط , الحمد لله الذي حد للناس حدوداً ومنعهم أن يتجاوزوها ، والذي بيّن الحقوق وأمرهم ألاَّ يعتدوها ، ولولا ذلك لاستحوذ عليهم الشيطان باستعلاء القوي على الضعيف ، وباستقواء الغني على الفقير ، وبهيمنة الحاكم على المحكوم ، لكنه سبحانه وتعالى بحكمته وعدله صان كرامة ومصالح البشر ودفع عنهم الشرور والمفاسد .

يطلق مصطلح مقاصد الشريعة على الأهداف التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها في حياة الناس والتي تقوم على جلب المصالح ودرء المفاسد . ومعرفة المؤمن بهذه المقاصد والغايات الباعثة على التشريع تزيد إيمانه بالله تعالى وتقوي العقيدة في قلبه وترسخ لديه القناعة الكافية بأحكام دينه مما يدفعه إلى الالتزام الذاتي بها والبعد عن مخالفتها فيتحقق في حياته وسلوكه مفهوم العبودية الخالص لله عز وجل ، فيصبح حينها هواه موافقاً للشرع منسجماً مع روحه وحقيقته ، كما أن معرفة هذه المقاصد تسهم في تحصين المؤمن وفكره في مواجهة الدعوات التي تستهدف تشويه دينه والافتراء عليه .

ومقاصد الشريعة الإسلامية نوعان عامة وخاصة ، فالمقاصد العامة تقوم على تحقيق مصالح الخلق جميعاً في الدنيا والآخرة من خلال جملة أحكام الشريعة الإسلامية عموماً ، أما المقاصد الخاصة فتقوم على تحقيق مصالح الخلق في مجال خاص من مجالات الحياة كالنظام الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو الصحي وغيرها من خلال الأحكام التفصيلية التي شرعت لكل مجال منها على حدته . وهذا من علامات تميز الشريعة الإسلامية بالشمولية والرحمة في تشريعاتها وأنها جاءت لإسعاد البشرية في الدارين .

وللمصالح البشرية ثلاثة مراتب من حيث أهميتها في حياة الناس :

1- الضروريات : وهي ما لا يستغني الناس عن وجودها بأي حال من الأحوال وفي مقدمتها الكليات الخمس .

2- الحاجيات : وهي ما يحتاج الناس إليها لتحقيق مصالحهم الهامة ، ويؤدي غيابها إلى المشقة واختلال نظام الحياة .

3- التحسينيات : وهي ما يتم بها اكتمال وتجميل أحوال الناس وتصرفاتهم ، ولا يترتب على غيابها الضرر أو المشقة .

وبخصوص الكليات الخمس فهي أهم ما يصلح به حال البشر ولا غنى لهم عنها ، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، وقد جاءت شريعة الإسلام بأحكام وافية لحفظ هذه الضروريات الخمس سواء من حيث الوجود ومن حيث البقاء والاستمرار بإنمائها وحمايتها من الفساد والزوال .

فحفظ النفس من أهم الضروريات التي أمر الشارع جل وعلا بالحرص على صيانتها ، وحرم السلوكيات التي تهددها والاعتداء عليها ، وحفظ النفس يعني صيانتها من كل مكروه بعدم تعريضها للهلاك ، فالنفس الإنسانية هي أغلى ما في المجتمع فوجب الحفاظ عليها لأنها لا تقدر بالمال ولأنها الثروة الحقيقية الأولى اللازمة لنماء الأمة وقوّتها . لذا فقد شرع ديننا الحنيف عدة وسائل لاستمرار بقائها على الدوام ، واتخذ التدابير الوقائية التي تمنع إزهاقها وإعدامها :

أولاً : فمن جهة الوجود شرع الإسلام الزواج بهدف التناسل والتكاثر وإيجاد النفوس والأفراد لعمارة الكون ، ولتشكل بذرة الحياة الإنسانية في الأجيال المتتابعة والمتلاحقة ، قال تعالى { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ … } النحل 72 .

ثانياً : ومن جهة الاستمرار والدوام شرع الإسلام عدة وسائل لحفظ النفس :

1- أوجب على الفرد اتخاذ وسائل الإبقاء على حياته كتناول الطعام والشراب وتوفير اللباس والمسكن ، فيحرم عليه الامتناع عنها إلى الحد الذي يهدد بقاء حياته ويعرضه للهلاك .

2- كلف الدولة بإقامة الأجهزة الكفيلة بتوفير الأمن العام للأفراد من قضاء وشرطة وما يشابهها من مؤسسات ، فالأمن من أهم الحقوق العامة لكل أفراد المجتمع ، قال صلى الله عليه وسلم { من أصبح منكم آمناً في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا } رواه البخاري .

3- أوجب المحافظة على كرامة الإنسان كونه إنساناً بغض النظر عن دينه أو عرقه أو جنسه ، ومنع الحد من نشاطاته بغير مبرر شرعي أو قانوني من خلال كفالة جميع حقوقه وحماية حرياته .

4- تشريع الرخص في مجال التكاليف والعبادات وذلك لرفع المشقة عن الإنسان التي تلحق به الضرر بسبب الأعذار كتشريع الفطر في رمضان للمريض والمسافر ، وكتشريع التيمم عند انعدام الماء للوضوء .

5- حرم قتل النفس الإنسانية واعتبر ذلك جريمة نكراء ، قال تعالى { … مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً …} المائدة 32 ، كما حرم قتل الإنسان نفسه ، قال تعالى في ذلك { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } النساء 29-30 ، فحياة الإنسان ليست ملكاً خاصاً له حتى يتخلص منه أو يسقطه متى شاء .

6- أوجب العقوبة على مرتكب جريمة القتل سواء في ذلك القتل العمد والقتل الخطأ ، قال تعالى في عقوبة القتل العمد { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى … } البقرة 178 ، وقال سبحانه في عقوبة القتل الخطأ { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا … } النساء 92 ، فلا يتصوّر أن يُقدم المسلم على قتل أخيه إلا بطريق الخطأ لأنّ الإيمان زاجر عن ذلك ، أما مَن صدر عنه القتل بطريق العمد فقد توعده الله تعالى بأشدّ العذاب ، قال تعالى { … وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } النساء 93 .

7- أوجب الجهاد حفظاً للنفوس من الطغاة والمستبدين وحماية للمستضعفين الذين يتعرضون للظلم ، قال تعالى { وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً } النساء 75 .

8- شرع الدفاع عن النفس في حالة العدوان عليه ، قال صلى الله عليه وسلم { من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد } رواه أبو داود .

9- وشرع التداوي من الأمراض ، فقد قال صلى الله عليه وسلم { إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بالحرام } رواه أبو داود ، وهو سنة نبوية فعلها صلى الله عليه وسلم مع كمال توكله على الله تعالى ، فقد ثبت أنه { احْتَجَمَ … } رواه البخاري والحجامة نوع من التداوي ، فالتداوي لا ينافي التوكل على الله كما لا ينافيه دفع الجوع بالأكل والعطش بالشرب ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي جعلها الله تعالى مقدمات لمسبباتها قدراً وشرعاً ، أما تعطيلها فيؤثر في التوكل ذاته فيجعله تواكلاً ، والتواكل إهمال الأخذ بالأسباب بذريعة التوكل على الله فإذا جاءت نتيجته على غير ما يريد ويهوى سخط على قدر الله ولم يرضَ به ، أما التوكل الحقيقي فهو الأخذ بالأسباب والرضا بالنتائج وبقدر الله خيره وشره .

يضاف إلى ذلك أن في التداوي مصالح كثيرة إذا كان بالوجه الشرعي وبالأدوية المباحة ، فهو يعين المؤمن على أسباب الشفاء وعلى طاعة الله والقيام بكل ما ينفع الناس ، والمرض يعطله عن ذلك ، فالصحة إذن من نعم الله عز وجل العظيمة على الناس ، قال صلى الله عليه وسلم { نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ } رواه البخاري

ولكن التداوي يصبح واجباً كما في الحالات المهلكة كحوادث السير مثلاً أو الأمراض التي تؤدي إلى الإعاقة والإصابات المزمنة ، أو حالات الأوبئة والأمراض السارية التي تنتقل عدواها من شخص إلى آخر لقوله صلى الله عليه وسلم { لا ضرر ولا ضرار ، من ضارَّ ضره الله ومن شاقَّ شق الله عليه } رواه الحاكم في المستدرك .

وهنا أؤكد على وجوب اتباع وسائل الوقاية من الأوبئة وعدم التسبب في نقلها للآخرين لما في ذلك من إضرار بالنفس وبالغير وبالأخص أننا نعاني من جائحة فيروس كورونا المستجد ، فقبل وقوع المرض تكون الوقاية بالطهارة والنظافة واتباع سنن الفطرة والمحافظة على البيئة وتقوية المناعة وممارسة الرياضة ، وأما بعد وقوع المرض أو انتشار الوباء فتكون الوقاية باتباع تدابير السلامة التي يحددها المختصون ، وقد يلزم اتباع الحجر الصحي الذي يعتبر من أهم الوسائل للحَدِّ من انتشار الأمراض الوبائية ، ومن أهم هذه التدابير الوقائية تقليل التجمعات كما في الأعراس وبيوت العزاء ، وعدم التجمهر في الأسواق والمحلات التجارية والأماكن المغلقة ، ووجوب لباس الكمامة (القناع الطبي) والقفازات واستخدام المواد المطهرة حسب التعليمات الصحية الصحيحة ، وعدم الخروج من البيوت إلا للضرورة القصوى ، كل ذلك للحفاظ على النفس التي أوجب الشرع حفظها ، ندعو الله سبحانه أن يرفع هذه الغمة عنا وعن الأمة كلها وعن البشرية جمعاء .

تابعنا على نبض

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

الرجاء ايقاف مانع الاعلانات لتصفح الموقع

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock