آراء وكتاب

المؤامرة مستمرة على مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك

هذا هو الإسلام

الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

في كل يوم تطلع فيه الشمس تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلية بإجراءات جديدة وانتهاكات عديدة واعتداءات على كل ما هو فلسطيني في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة ؛ وبالأخص في المدينة المقدسة والمسجد الأقصى المبارك ، دون أدنى رادع لها أو مراقب أو محاسب .

ولعل أحدث تلك الانتهاكات وليس آخرها التجمعات الهائلة لليهود في ساحة البراق الشريف التي حضرت إليه قبل أيام عشية ما يسمى بعيد الغفران ، ثم تلاها الاعتداء على موظفي الأوقاف وحراس المسجد الأقصى المبارك واعتقال عدد كبير منهم بعد اقتحامه من قبل المستوطنين اليهود والمتطرفين بالمناسبة ذاتها وهي عيد الغفران ، وإنني أتساءل : أي غفران هذا الذي يحتفلون به وهم غارقون في دماء الشعب الفلسطيني التي سفكوها بدم بارد ، ويحملون وزر أرواح أبنائه المدنيين العزل التي اقتنصوها ! أي غفران هذا الذي يبتهجون فيه باغتصاب أراضيه ومنازله ومصادرة حرياته ! أي غفران هذا الذي يحلمون به وقد اقترفوا كل أنواع جرائم الحرب واستعملوا القوة الغاشمة لسلب حقوقه ومحاولة القضاء على آماله في الحرية والاستقلال وإقامة دولته المنشودة ككل شعوب الأرض ! أبعد كل هذا ينتظرون من ربهم أن يغفر لهم ! هل في دينهم مغفرة بلا توبة ! أو توبة بدون إعادة المظالم لأصحابها !

وقبل أيام أيضاً قام أحد الجنود المحتلين بالتجول في ساحات المسجد الأقصى المبارك وهو يحمل زجاجة خمر في انتهاك لكل القيم الدينية التي أقرتها الأديان السماوية ، وما زالت اقتحامات المسئولين والوزراء والبرلمانيين والسياسيين للمسجد الأقصى المبارك مستمرة ومن بينهم وزير الزراعة الذي اقتحمه مؤخراً ، وهذا دليل آخر على أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي ماضية في مخططاتها الرامية إلى السيطرة عليه بشكل رسمي وعلني والاستفراد به لتهويده ثم هدمه وإقامة الهيكل المزعوم في مكانه ، فقد بلغت الاقتحامات في الشهر الماضي وحده 2841 نفذت بدعم وحماية كاملين من كافة الأذرع العسكرية للاحتلال .

ليس هذا فقط ، بل قامت سلطات الاحتلال بملاحقة المصلين المسلمين وبالأخص عند باب الرحمة وتصويرهم ثم اعتقالهم وإبعاد عدد منهم عن المسجد الأقصى المبارك ، وقامت أيضاً بمضايقة سائقي الحافلات التي تنقل المصلين والزوار أسبوعياً إليه من كافة المناطق والمدن الفلسطينية ؛ وذلك من خلال تهديدهم بالاعتقال أو الإبعاد عن المسجد أو سحب رخص القيادة للتوقف عن هذه الرحلات ، ومنعت أعمال الترميم في سبيل قاسم باشا في المسجد الأقصى المبارك واعتدت على العمال والموظفين الذين يقومون بعملية الترميم .

وقامت سلطات الاحتلال الإسرائيلية أيضاً باعتقال أكثر من مائة مقدسي بينهم سيدات وأطفال وقاصرين في الشهر الماضي ، وأبعدت عدداً من موظفي دائرة الأوقاف عن المسجد الأقصى المبارك ، وأكثر من عشرين مواطناً فلسطينياً من القدس بينهم سيدات لفترات متفاوتة ، وقامت كذلك بهدم عدد من بيوت المقدسيين ومنشآتهم في القرى والبلدات المحيطة بمدينة القدس وبالمسجد الأقصى المبارك ، وخربت جرافات الاحتلال بعض الطرق فيها ، وفي المقابل صادرت آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية لصالح إقامة المؤسسات والمراكز التلمودية والتراثية والكليات العسكرية وآلاف الوحدات السكنية الاستيطانية لليهود ، وحولت المراكز والمواقع العسكرية إلى مستوطنات فأصدرت تراخيص البناء فيها للمغتصبين .

وبضغوط من مكتب بنيامين نتنياهو فقد أقرت ما تسمى ببلدية الاحتلال في القدس خطة هيكلية جديدة لتحديث البلدة القديمة في القدس تتضمن ترميم باب العامود ومبانٍ تاريخية أخرى ، واستحداث منطقة تحت الأرض أسفل ساحة البراق ملاصقة للجدار الغربي للمسجد الأقصى المبارك التي هي في الأصل حارة المغاربة التي هدمها الاحتلال عام 1967 وسواها بالأرض بعد طرد سكانها منها ، وتتضمن الخطة أيضاً بناء مركز زوار وتوسعة ساحة البراق الشريف الذي يمثل جزءاً من المسجد الأقصى المبارك وبالتالي وقفاً إسلامياً صحيحاً للمسلمين وحدهم بدون أي منازع .

إن الاستيلاء على هذه المنطقة الوقفية وتوسيعها بإضافة أكثر من 600 متر مربع إليها بذريعة إنشاء مرافق لذوي الاحتياجات الخاصة وتوسيع الطريق المؤدية إليها إنما هو في الحقيقة حملة تغييرات جوهرية واسعة تستهدف المعالم الإسلامية والمسيحية في البلدة القديمة من القدس ، وهي بمثابة تحضير المرافق للهيكل المزعوم ، ويعد انتهاكاً جديداً لمقدسات المسلمين وتدخلاً في شؤونهم الدينية ودور عبادتهم ، ويأتي في سياق تكملة مشاريع التهويد والتغيير الجذري للمشهد الديني والتاريخي في مدينة القدس من خلال الحفريات وسرقة التاريخ والآثار ، ومن خلال بناء المستوطنات والكنس والحدائق التلمويدية أيضاً والتي تنفذها سلطات الاحتلال بقوتها الغاشمة ، وهي أعمال غير قانونية مهما حاولت سلطات الاحتلال شرعنتها .

إن هذا المخطط التآمري وكل المخططات السابقة واللاحقة التي تعكف عليها سلطات الاحتلال تهدف إلى خلق واقع جديد في المدينة المقدسة ، وتنفذها بدعم غير مسبوق من الإدارة الأمريكية الجديدة التي فاقت كل الإدارات السابقة من حيث الانحياز لإسرائيل ومنحها الشرعية ، ومن حيث مخالفة كل التشريعات والقرارات والمرجعيات الدولية ، ويحدث ذلك أيضاً في غياب الموقف الرسمي للأمة كلها وغياب ردود فعل الشعوب العربية والإسلامية ، وفي ظل الصمت الدولي تجاه القدس مما يحفز إسرائيل على ارتكاب كل هذه الجرائم البشعة والعدوانية ضد شعبنا الصابر المصابر المرابط .

أما نحن في فلسطين فنقول للعالم : ليصمت المجتمع الدولي ، وليصمّ أذنية وليغمض عينيه عما يجري في الأراضي المحتلة وفي القدس والمسجد الأقصى المبارك ، فإن هذا التجاهل لن يعفيه من المسؤولية ،

ونقول لأمتنا : حتى وإن غاب الموقف الرسمي ، حتى وإن انشغلت شعوبنا عنا بمشاكلها الداخلية المفتعلة فإننا لن نتخلى عن مدينتنا ولا عن مسجدنا بل سنفتديهما بالمهج والأرواح ما حيينا ، ومهما حاولت سلطات الاحتلال النيل منهما كما شاءت وكيف شاءت فستجدنا لها بالمرصاد ، حتى وإن نجحت في ذلك فإن الأمة ستستيقظ يوماً وتطهر الأرض المقدسة من رجزها ، فهذا هو التاريخ جليٌّ واضح سطَّر في صفحاته للأجيال مصير الطغاة الذين اغتصبوا القدس وذبحوا في يومين أكثر من سبعين ألفاً من أهلها ، والذين اتخذوا من المسجد الأقصى المبارك اسطبلاً لخيولهم ، ماذا كانت نتيجتهم ؟ ماذا كان مصيرهم ؟

لقد هيأ الله من أبناء هذه الأمة من يتولى قيادتها ، ويحسن اختيار جادتها ، ويبدأ معها طريق التحرير والتطهير ، فتعاقب عدد من القادة الأفذاذ الأبطال على بناء الأمة وإعدادها للمهمة العظيمة التي تنتظرها ، فكان التتويج بتحرير القدس على يد صلاح الدين ثم بتحرير كل فلسطين والدول المجاورة لها من الاحتلال .

إن ما يعترينا الآن هو من سُنّة الابتلاء التي لا يكاد أحد ينجو منها ، لقد علمنا وتعلّمنا من السنن التي أودعها الله عز وجل في الكون مذ خلق الإنسان ، ومن مسار التاريخ الإنساني في كل بقاع الأرض أن الصراع بين الحق والباطل وبين الخير والشر وبين الهدى والضلال ماض ما دامت الحياة ، وأن المعركة بينهما لا تفتر أبداً لأنها من النواميس التي جبل عليها النظام البشري ، ولن يتوقف هذا التصارع إلا إذا قامت الساعة ، إنه الصراع بين الحق والباطل ، بين الخير والشر ، وإننا نعلم يقيناً أن الغلبة والفوز والنصر الحقيقي هي حتماً للحق وأهله مهما حقق الباطل وأهله من انتصارات آنية وهمية ، فالعاقبة إذن للحق في نهاية المطاف ، ونعلم يقيناً أن الله سبحانه لا يرضى أبداً عن الباطل وأهله وإن كان يملي لهم في غيهم ، ولا يقبل بالشر وإن كان يرخي للأهله العِنان ! إنما هو الاستدراج ، وإنما هي حكمة ربانية عظيمة ، فالله سبحانه لا يَدَعُ للباطل أن يحطم الحق أبداً أو أن يغلبه في المعركة ، ولا يدع المبطلين والمفسدين يتمادون في باطلهم ويسارعون في إفسادهم ويستمرون في طغيانهم ! حاشاه جل وعلا ، فأمره قادم لا محالة ، قال تعالى { … فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُون } غافر 78 ، فيا شعبنا الفلسطيني البطل ابشروا : فالنصر قادم لا محالة مهما طال زمان الطغيان .

تابعنا على نبض

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

الرجاء ايقاف مانع الاعلانات لتصفح الموقع

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock