مدونة الأردن

الشيخ هارون الجازي مجاهد من زمن الفرسان 1913-1979 م

الحياة – بقلم المؤرخ محمود سعد عبيدات
كان الأردن على الدوام أرض الحشد والرباط، ومنبت المناضلين الأشداء الذين حملوا راية الدفاع عن الحمى العربي، منذ حملة نابليون بونابرت على عكا وحتى يومنا هذاتعد الأردن بأرضها ورجالاتها سنداً قوياً وحصناً منيعاً للمقاومين في فلسطين، منذ أن تفجرت الثورة الفلسطينية، وهم يرفدون الثوار بالسلاح والمال والرجال، بل أن مجموعات من المقاتلين الفرسان من أبناء عشائر الأردن، كانوا يجمعون على شكل مجموعات مقاتلة، فتذهب لتقاتل الإنجليزواليهود في فلسطين، فرووا بدمائهم الطاهرة ثرى الأرض المقدسة، فقد خرجت قوات من قرى وبلدات شمالي الأردن بقيادة مفلح الكايد العبيدات، أول شهيد أردني على أرض فلسطين، ومجموعات من بدو الشمال بقيادة الشيخ هايل السرور وأخرى من البلقاء بقيادة الشيخ هايل الحديد الذي استشهد قرب رام الله، وفي الجنوب خرجت مجموعات بقيادة الشيخ المناضل هارون الجازي، جلّهم من قبيلة الحويطات للقتال في فلسطين.
الزعيم والمضياف
عندما يكون الرجل شيخاً كبيراً بين أهله وعشيرته، وصاحب مشورة في مجتمعه ومحيطه العشائري والقبلي، وصاحب الحضور المتميز بين أقرانه، نجد ديوانه ومضافته تعج بكبار القوم فهما بيت ضيافة وخبرة وحكم، تفوح رائحة القهوة العربية من نوافذ المضافة أو من شقوق بيت الشعر، المخصص لاستقبال الزوار وأهل السمر وسماع قصائد الشعر البدوي على أنين الربابة ؟؟ هذا هو إيقاع الشيخ المجاهد هارون بن سحيمان الجازي، من الندرة عندما صالح بين الزعامة التقليدية وبين زعامة كوكبة من المجاهدين، متمرد على مألوف البادية مثل ما تمرد حمد بن جازي وعودة أبو تايه، وحرّض نفسه على قبول العيش بين الصخور والوديان، يتأبط بندقيته لاقتناص أعداء الأمة والوطن والتاريخ والحضارة، فالمعركة أصبحت معركة كل الشرفاء العرب لأنهم يدافعون عن شرف الانتماء القومي، فكان شيخنا الجليل عند مستوى الرجال، الذين يمثلون الشرفاء العرب، عندما قرر القتال على أرض فلسطين، كان الجهاد عنده بمعناه القيمي والعقائدي.الشيخ هارون واحد من المجاهدين الذين سطروا أروع الملاحم البطولية على أرض فلسطين، فقد مثل البطولة الفردية بكل معانيها الجهادية المقدسة.
الولادة والنشأة
ولد الشيخ هارون في بلدة ( أذرح ) عام 1913 م، وتربى تربية عربية بدوية منحته الصحراء الأردنية قوة في الجسد والذاكرة، وردت من عبق الماضي روح البطولة والتضحية والنداء، روح قبيلة الحويطات. والحويطات هم الذكرى النسبية للعرب الأنباط، أصحاب تاريخ التحدي للإمبراطورية الرومانية وعدوتها الامبراطورية الفارسية، فالتاريخ هو السجل الفكري الذي يعاد بوساطته فعل الجماعة والمساهم في صنع الحدث ولكنه لا يخلق البطولة، فالبطولة يصنعها الرجال ويفرضون عالمهم على التاريخ، وهنا يكون التاريخ الشاهد على البطولة ويحافظ عليها من النسيان وربما من نكران الجميلوالذاكرة الشعبية في مثل هذه الحالة فلسفة وطنية قومية ونضالية ترتبط بذاكرة الأفراد، ومآثر الأبطال وتراجيديا الماضي..الماضي يصبح مشتركاً كماضٍ مكتوب يُقرأ ويدرس في المدارس والجامعات وحتى المنتديات الفكرية والثقافية، وأدبيات الأحزاب السياسية، أي أنه نصيّ وليس طقوساً فحسب. والحاضر يكتب الماضي كأنه تاريخ مؤدٍ إليه بالضرورة. وتصور الماضي تاريخياً يتجاوز كسر حركته الدائرية وتحويله إلى خط تصاعدي ليصبح الماضي مجرد تاريخ الحاضر، ولتصبح الذاكرة الشعبية متحفاً قومياً وكتاب تاريخ، نعم، أنت أيها البطل هارون من صنّاع تاريخنا، فعذراً لله إن تأخرنا في إحياء ذكراه.
المجاهد العروبي
لقد شعر فارسنا الكبير بالمؤامرة البريطانية – الصهيونية ، المشتركة على عروبة فلسطين قبل الانسحاب البريطاني المشبوه من الأراضي الفلسطينية وتركها لليهود الصهاينة تنفيذاً لوعد بلفور المشؤوم، فقرر مع خمسين من المجاهدين معظمهم من أفراد عائلته، التوجه إلى فلسطين ليقوم معهم بالواجب الوطني القومي المقدس. فكانت محطته الأولى في القدس حيث وصلها في شباط 1948م، وتعرف إلى المجاهد كامل عريقات الذي رحّب بالمجاهدين الأردنيين، فانتقل بهم إلى مركز ( القيادة العليا للجهاد المقدس ) في (بيرزيت)، وكان اللقاء الأول مع المجاهدين:
عبد القادرالحسيني القائدالعام للجهاد وحسن سلامةوقاسم الريماوي وأميل الغوري وابراهيم أبودية
قائد ومخطط عسكري
طلب المجاهد هارون من عبد القادر الحسيني أن يمده بالسلاح لتوزيعه على المجاهدين الذين رافقوه من أبناء قبيلته، فاعتذر عبدالقادر الحسيني وقال له:(( لايوجد لدينا سلاح،وعليكم الانتقال إلى بلدة ( بيت صفافا) لاختيارالموقع الذي يعجبكم… ‼)) وكان ردّ الفعل عند المجاهد هارون أن قال له ( ( لن أذهب إلى بيت صفافا لاختيار الموقع، إنني عازم على التجوال لاختيار المواقع التي نستطيع العمل فيها )) وعرف عن المجاهد هارون أنه كان يرفض صيغة الأمر، وكان لاينفذ إلا مايقتنع به، وكان دائما على صواب. وقال عنه المجاهد الكبير العقيد محمد النعيم، المكلف بالإشراف على تدريب وتسليح المجاهدين وهو من ملاك الكتيبة الرابعة ما يلي:
لم يلتزم هارون الجازي بالهدنة،فكان يشن غارات على مواقع العصابات اليهودية في الوقت الذي يريده، وحاول مرة أن يستولي على قافلة للقوات الدولية،وطلبت منه أن لا يقدم على ذلك، فاليهودهم عدونا فقط وكان يستجيب مرة وعشرمرات لاينفذ إلا الذي برأسه،وكان يعتقد أن كل الغرب ضد العربويحب محاربة كل أعداء العربوهذا يعود إلى حماسه للقتال فجنون الشجاعة عنده لا يوصف حتى أن الموت كان يهرب منه
باب الواد والبطولة المتكررة
بعد تجواله على المناطق الفلسطينية الساخنة، اختار موقع ( باب الواد ) يقول في أوراقه وعددها سبع صفحات فقط: (( وقع اختياري على موقع باب الواد،المكان الحصين بما فيه من غابات كثيفة وموانع طبيعية وهو المكان الذي لا يصلح لقطع المواصلات بين القدس وتل أبيب.
رابط المجاهد هارون ورفاقه في موقع ( بيت قاد) وكانت أولى معاركه مع العصابات الصهيونية في هذا الموقع. يقول على هذه المعركة رابطنا في موقع ( بيت قاد). فلم تلبث أن هاجمتنا قوة من مستعمرة ( كفر ويا )، واحتدم القتال بيننا على طوال بضع ساعات، وقد استشهد أحد رفاقي، بينما جاءت سيارة جيب وحملت الجرحى اليهود وقتلاهم )) عن هذه المعركة يقول المجاهد عبدالله السمرية في دفتر ذكرياته عن حرب فلسطين: (( كانت معركة بيت قاد التي قادها المجاهد الكبير هارون الجازي الحافز الأكبر لجميع المجموعات الجهادية،وعندما زارنا المجاهد حسن سلامة،تحدت عمّا فعله الشيخ هارون بالعصابات الصهيونية،وأبلغنا أن هذا الفارس الكبير قتل وجرح أكثر من عشرين يهودياً، حتى أصبح هدفاً للاغتيال من قبل قادة الصهاينة.
معارك متلاحقة
أما المعركة الثانية فكانت بالقرب من مستعمرة (عرطوف). وقد اشترك في هذه المعركة أهالي قرى ( دير بان) و (بيت محسير )، وكان أحد المجاهدين لا يملك إلا خنجراً هاجم به أحد الجنود وطعنه وأخذ سلاحه وكانت خسائر العدو كبيرة، وخسر المجاهد هارون في المعركة ابن عمه المجاهد الشهيد حتمل نهار الجازي.
وبعد المعركة الثالثة التي وقعت بالقرب من مستعمرة (خلدة ) دخل البطل هارون في دائرة الضوء وأصبح اسمه على كل لسان في ساحة النضال وعلم جلالة الملك عبدالله المؤسس عن أعماله البطولية وأعجب بشجاعته وحنكته في القتال.
الملك المؤسس يقدم له الأسلحة
قدّم له جلالة الملك عبدالله المؤسس هدية كبيرة كان بحاجة إليها، وهي كمية من الأسلحة والذخيرة والمؤن، قال عن هذه الهدية: (( …طلبني قائد اللواء الرابع أحمد صدقي الجندي في رام الله وقدّم لي كمية من الأسلحة والذخيرة قائلاً لي: إن الملك عبدالله أرسلها هدية لك ولرفاقك المجاهدين)). وقد استعمل هذه الأسلحة في المعركة الرابعة التي وقعت في مضيق ( باب الواد) . وكانت صباح يوم 20 نيسان 1948م، حيث استعمل الألغام لأول مرة. فدمرت قواته قافلة يهودية بعد أن دمّر جسر ( البئر الحلو)
أتقن حرب العصابات
تحكم الشيخ هارون بالطرق المؤدية إلى (اللطرون ) وعن نتيجة هذه المعركة قال: (( … وفي ذلك اليوم غنمنا عدداً من سيارات العدو ومدرعة عسكرية، وأحرقنا قسماً أخرى )) وليشهد المجاهد هارون أن ضابطاً انجليزياً كان يتعاطف مع المجاهدين بقوله: (( وبالتعاون مع القائد كامل عريقات قمنا بعمل سدود في طريق باب الواد، ووضعنا قيادتنا في قرية ( بيت محسير) وقد تعاون الضابط الانجليزي الذي كان في اللطرون معنا، وأخذ يزود سيارتنا بالبنزين، مقابل أن نسمح له باستعمال الطريق، وتكونت بيننا وبينه مودة صادقة، وكان يعطينا بعض المعلومات عندما يتقدم اليهود نحونا من ناحية القدس وبقينا وإياه على وفاء تام إلى أن ارتحل يوم 15 أيار 1948.
انتصارات وغنائم ثمينة
وكانت معركته البطولية الخامسة في موقع بالقرب من (بيت محسير) والمعركة السادسة كانت في موقع (تل رأس الحبة) . وفي هذه المعركة خسر ابن عمه الشهيد البطل (نايل بن حمد الجازي)، وكان ثأره لابن عمه مشهوداً حين قام باحتلال مستعمرة (عرطوف) وقتل العشرات من سكانها، وغنم أسلحة كثيرة. وسيارات عسكرية قال إنها من صنع يهودي. وتعد هذه المعركة وهي السابعة من بين معاركه – من أعنف المعارك التي وقعت بعد 15/أيار – أما المعركة الثامنة فقد كانت في باب الواد بالتعاون مع الكتيبة الرابعة، وتعد هذه المعركة من أشد المعارك المشتركة بين المجاهدين وأبطال الكتيبة الرابعة من جهة وعصابات اليهود من جهة ثانية وتجلت البطولة بكل معانيها القيمة وكان بطلها وفارسها وقائدها من الجيش العربي الأردني القائد محمد النعيم ومن المجاهدين المجاهد الشيخ هارون الجازي.
كان رديفاً للجيش الأردني
ويقول القائد محمد النعيم: (( تمكنت قواتنا من تدمير السيارات اليهودية القادمة من ( وادي الصرار) وتمكن المجاهد هارون الجازي من أسر ستة من جنود العدو )) . أما معركته التاسعة فكانت في اليوم الأول من أيام الهدنة تمركزت قوة لليهود بيننا وبين الكتيبة الرابعة في موقع (بيت سوسين). وحيث إننا لم نكن مرتبطين بالهدنة قمنا بمهاجمة ذلك الموقع واستولينا عليه وغنمنا عدة – رشاشات وبنادق وجهاز لاسلكي
طلب الشهادة لكن…
وبعد هذه المعركة خاض المجاهد الكبير هارون الجازي عشرات المعارك في القدس، وباب الواد، واللطرون، ودير أيوب، وجبال يالو، وغيرها من المواقع التي تشهد على شجاعته وبطولته، وقد منحه الملك عبدالله وسام الاستقلال تكريماً له ولشجاعته في المعارك التي قادها ضد العدو الصهيوني.

توفي رحمه الله في حادث سير سنة 1979م.

تابعنا على نبض

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

الرجاء ايقاف مانع الاعلانات لتصفح الموقع

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock