آراء وكتاب

الإيمان بالكتب السماوية

هذا هو الإسلام

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

الإيمان بالكتب السماوية هو الركن الثالث من أركان الإيمان ، والكتب السماوية هي الكتب والصحف التي تحتوي كلام الله تعالى الذي أنزله على رسله عليهم الصلاة والسلام ؛ سواء في ذلك ما ألقاه مكتوباً بيده سبحانه وتعالى كمثل التوراة التي قال تعالى فيها { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } الأعراف 145 ، وما أنزله عن طريق المَلَك وحياً ومشافهة ثم كُتِبَ فيما بعد في الصحف أو القراطيس كمثل القرآن الكريم الذي تمت كتابته من قبل كتّاب الوحي كلما نزلت آياته وسوره ؛ بحيث توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محفوظ في الصدور وفي السطور .

وهذا الركن أصل من أصول العقيدة والدين لا يصح إيمان المرء إلا به ، فمن أنكر شيئاً مما أنزل الله على رسله منها فقد بطل إيمانه ، قال تعالى { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً } النساء 136 .

ومقتضى الإيمان بهذا الركن التصديق الجازم بأن الكتب السماوية كلها ـ ما علمنا منها وما لم نعلم ـ منزلة من عند الله عز وجل على رسله عليهم الصلاة والسلام ليبلغوها إلى عباده ؛ حتى تكون لهم رحمة وهداية وسبب سعادة لهم في الدنيا والآخرة ، والتصديق بأنها كلام الله عز وجل وليست كلام غيره فهو قائلها وهو مصدرها ، والتصديق بأنه تكلم بها حقيقة كما شاء وعلى الوجه الذي أراد ، ومقتضاه أيضاً الإيمان بكل ما فيها من الشرائع والتوجيهات والقيم ، وبأنها جميعها يكمّل بعضها بعضاً ولا يناقضه ، ويصدق بعضها بعضاً ولا يكذبه .

ومقتضاه أيضاً الإيمان بما علمنا أسماءها منها على التفصيل وهي : القرآن الكريم الذي نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والتوراة التي أنزلت على سيدنا موسى عليه السلام ، والإنجيل الذي أنزل على سيدنا عيسى عليه السلام ، والزبور الذي أوتيه سيدنا داود عليه السلام ، وأمَّا ما لم نعلم اسمه من هذه الكتب السماوية فنؤمن به على الإجمال .

ويترتب على الإيمان بالكتب السماوية تصديق ما صح من أخبارها كأخبار القرآن الكريم ، وأخبار ما لم يبدل ولم يحرّف من الكتب السابقة ، قال تعالى عن أهل الكتاب { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } آل عمران 78 .

ويقين المؤمن بأن الكتب السماوية يُكَمِّلُ ويصدق بعضها بعضاً في أصلها وصورتها التي نزلت عليها ، قال تعالى بحق الإنجيل { وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } المائدة 46 ، وقال تعالى بحق القرآن الكريم { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ } المائدة 48 ، فهذه الميزة من أعظم مميزات كتب الله تعالى عن كتب البشر ، ومن أظهر خصائص كلام الله سبحانه عن كلام الخلق ، فكتبُ المخلوقين عرضة للنقص والخلل والتعارض ، قال تعالى في وصف القرآن الكريم { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } النساء 82 .

وحيث إن هذه الكتب السماوية المقدسة كلها من مصدر واحد هو ربنا عز وجل ؛ فقد اشتملت على قدر مشترك فيما بينها كالقَصص ومسائل العقيدة كالإيمان بالغيب والإيمان بالرسل والكتب والبعث والنشور ، إذ إن هذه المواضيع والجزئيات مما لا يقع فيه النسخ ، أما الاختلاف بينها فهو فقط في الشرائع والأحكام التي يطالب بفعلها المكلفون أو بتركها أو بالتخيير بين الفعل والترك على وجه من الوجوه ، قال تعالى { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } المائدة 48 ، مع ملاحظة أن هذه التشريعات لا تختلف اختلافاً كلياً ؛ بل هو اختلاف في التفاصيل وليس في المسائل الأساسية ، كالاختلاف في نوعية العبادات وكيفية أدائها .

ويؤمن المسلم بأن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية ، أنزله الله عز وجل للناس كافة كما كانت رسالة الإسلام للناس كافة ، بينما كانت الكتب السابقة موجهة لأقوام معينين هم أقوام الرسل الذين أرسلوا إليهم ؛ لذا فقد تكفل الله سبحانه بحفظه من التحريف دون سائر الكتب السماوية ، وقد تحقق ذلك منذ لحظة نزوله وحتى يومنا هذا ؛ بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، قال تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } الحجر 9 ، بدليل أنه بلغنا بجميع سوره وآياته وكلماته نقلاً بالتواتر في أصله وأجزائه ووضعه وترتيب سوره وآياته ، نقلته لنا عبر الأجيال جموع كثيرة غفيرة وألوف مؤلفة من الحفَّاظ التي لا يمكن أن يجتمع أفرادها عبر هذه الأجيال المتلاحقة على الكذب ؛ لاتصافهم بالعدالة والثقة وبقوة الحفظ والدقة ، ابتداء من الصحابة الذين تلقَّوْه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من بعدهم التابعين ثم تابعي التابعين ، ومن تبعهم إلى يومنا هذا وإلى يوم الدين ، فكل سورة وكل آية بل وكل حرف فيه ثابت ثبوتاً قطعياً لا شك فيه ، فقد جمع في المصاحف في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه ، وتم نسخه في سبع نسخ جديدة في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وتم توزيعها على عواصم البلاد الإسلامية .

أما التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية المنزلة على الرسل عليهم الصلاة والسلام فقد عهد الله بحفظها إلى أهلها والمؤمنين بها ، قال تعالى { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ … } المائدة 44 ، ولكنهم حرفوا وبدلوا في هذه الكتب عن إصرار وعمد وعلم ، وقد قرر الله سبحانه ذلك فقال تعالى { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } البقرة 75 .

ومن مقتضيات الإيمان بالكتب السماوية التصديق بها جميعاً ، أما العمل فبالقرآن الكريم فقط ، فعلينا الرضا والتسليم به وبأحكامه سواء فهمنا حكمتها أم لم نفهمها ، فهو ختامها وناسخها ، قال تعالى { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } المائدة 48 ، أي أميناً وشاهداً وحاكماً ورقيباً عليها ، فلا يجوز العمل إذن بأي حكم من أحكام تلك الكتب السابقة إلا إذا وافق أحكام القرآن الكريم .

والقرآن الكريم هو اسم لكتاب الله تعالى المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يسمى به شيء غيره من سائر الكتب السماوية ، وهو كلام الله بلفظه ومعناه ، ليس من قول جبريل عليه السلام ولا من قول محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } العنكبوت 48 ، وأن دور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيه ينحصر في تبليغ هذا الكتاب وفي تفسير بعضه ، قال تعالى { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } القيامة 16- 19 .

أنزل الله القرآن الكريم بلسان عربي قال تعالى { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } الشعراء 193-195 ، وهذا ليتمكن الناس من فهمه وإدراك معانيه ومراميه ، والإيمان به وتبليغه إلى الناس .

ويمتاز القرآن الكريم بأنه أعجز البشر أن يأتوا بمثله , فقد ارتقى في البلاغة إلى حد خارج عن قدرتهم جميعاً وبالأخص العرب ؛ مع كونهم أهلها وأربابها ، قال تعالى { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } الإسراء 88 .

ولعل أبرز خصائص القرآن الكريم أن الله عز وجل تَعَبَّدَنا بتلاوته : فقراءته ركن من أركان الصلاة تبطل بدونها ، قال تعالى { أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } الإسراء 78 ، وقراءته في غير الصلاة من العبادات التي تقرب المؤمن من ربه عز وجلّ ، قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } غافر 29 ، وقال صلى الله عليه وسلم { اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه } رواه مسلم .

تابعنا على نبض

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

الرجاء ايقاف مانع الاعلانات لتصفح الموقع

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock